اقرأ ايضأ:-
هذا العمل، الذي يُعد إعادة قراءة معاصرة لمسرحية "عطيل" لويليام شكسبير، لم يكن مجرد إعادة إنتاج كلاسيكي، بل رؤية فنية جريئة تستحضر قضايا العنصرية، الانتماء، والهوية، مع لمسة خاصة تربطها بقصص الجنوب المنسية وتحدياتها المعاصرة.
إعادة صياغة شكسبير: من المأساة الكلاسيكية إلى الواقع المعاصر
مسرحية "عطيل وبعد"، التي كتب نصها بوكثير دومة، تأخذ نقطة انطلاقها من المشهد الأخير لمسرحية شكسبير الأصلية – لحظة مقتل ديدمونة – لتبني عليها سردية جديدة تتجاوز الأسلوب الكلاسيكي.
المخرج حمادي الوهايبي، بمقاربته الإخراجية المبتكرة، يعيد صياغة الأحداث ومصائر الشخصيات لتتماشى مع إشكاليات الواقع الراهن، حيث تتداخل ثنائيات الخير والشر، الحب والكراهية، الانفتاح والتعصب، والعنصرية وقبول الآخر.
في هذا العمل، يبرز الوهايبي كيف أن مأساة عطيل، المحارب ذو البشرة السمراء، ليست بعيدة عن مآسي العالم العربي اليوم، خاصة في ضوء أحداث غزة وما كشفته من مواقف غربية تجاه القضية الفلسطينية.
كما أشار الوهايبي في تصريحات سابقة، فإن المسرحية "تفاعل مع ما يقع الآن"، حيث تسعى إلى "تعرية المواقف الغربية" مع الإبقاء على إيمان بأن هناك أصواتاً غربية تناصر العدالة والإنسانية.
مهذب الرميلي: عطيل ينطق بصوت الجنوب
في قلب هذا العرض، يتألق مهذب الرميلي في دور عطيل، مانحاً الشخصية بعداً جديداً يعكس هموم أبناء الجنوب وقصصهم المنسية. في تصريحه عن تجربته، قال الرميلي:
"لعب دور عطيل في 'عطيل وبعد' كان تحدياً كبيراً ومسؤولية عظيمة. لقد حاولنا أن نعطي صوتاً للمهمشين، لأولئك الذين تُسكت قصصهم. عطيل هنا ليس مجرد محارب يواجه العنصرية، بل هو رمز لكل إنسان يبحث عن هويته وانتمائه في عالم يحكمه الصراع والتعصب."
يجسد الرميلي، الذي سبق أن فاز بجائزة أفضل ممثل في مهرجان بغداد الدولي للمسرح 2024 عن هذا الدور، عطيلاً بأداء عميق وحساس، يمزج بين القوة العسكرية والضعف الإنساني.
أداؤه ليس مجرد تقمص للشخصية، بل هو استحضار لتجارب إنسانية معاصرة، حيث يصبح عطيل مرآة تعكس صراعات الهوية والانتماء في مجتمعاتنا.
رؤية فنية متكاملة: من النص إلى الخشبة
العرض، الذي أنتجه المركز الثقافي الدولي بالحمامات، يضم نخبة من الممثلين مثل نور الدين الهمامي، محمد شوقي خوجة، بهرام العلوي، سامية بوقرة، إباء الحملي، وفاتن الشوابي، مع مشاركة خاصة للفنان أحمد الماجري.
كما أضافت اللوحات الكوريغرافية، التي صممها ريان سلام وشيماء ارحاولية بمساهمة قيس بولعراس، بعداً بصرياً مبهراً يعزز الفرجة المسرحية.
النص، الذي كتبه بوكثير دومة، يعتمد على مراجعة عميقة لترجمات متعددة لمسرحية شكسبير، بما في ذلك الترجمة التونسية للطاهر الخميري، مما أضفى عليه طابعاً محلياً وعالمياً في آن واحد.
هذا التفاعل بين النص الأصلي والسياق العربي المعاصر يجعل "عطيل وبعد" عملاً يتجاوز حدود الزمان والمكان، ليصبح صوتاً للمهمشين والمقاومين في كل مكان.
الجنوب المنسي: صوت المهرجان وهوية العرض
ما يميز "عطيل وبعد" في سياق مهرجان المسرح والمجتمع هو تركيزها على قصص أبناء الجنوب المنسية.
العرض لا يتناول العنصرية والهوية كمفاهيم مجردة، بل يربطها بتجارب ملموسة لمجتمعات تكافح من أجل الاعتراف بهويتها وتاريخها.
هذا الاختيار يتماشى مع رؤية المهرجان لهذه الدورة، التي تركز على الخصوصيات الثقافية والعمل الجماعي كوسيلة لتعزيز التكافل والتضامن، كما أشار مدير المهرجان صالح فالح في تصريحه.
نقد وتأمل: قوة المسرح في مواجهة الواقع
كعمل مسرحي، تنجح "عطيل وبعد" في تحقيق توازن نادر بين الجماليات المسرحية والمضمون الفكري. الإخراج المبتكر للوهايبي، الذي يعتمد على إيقاع بصري ودرامي متسارع، يجعل الفرجة تجربة بصرية وسمعية مكثفة.
الموسيقى والإضاءة، التي أشرف عليها صبري العتروس، وليد عصايدي، وصادق القيزاني، تضيف طبقة إضافية من العمق العاطفي، بينما تعكس اللوحات الكوريغرافية ديناميكية الصراعات الداخلية والخارجية للشخصيات.
ومع ذلك، قد يرى البعض أن تركيز العرض على الإسقاطات المعاصرة، مثل قضية غزة، قد يُبعد المشاهد عن السياق الأصلي لمسرحية شكسبير.
لكن هذا الخيار الإخراجي يعكس شجاعة المخرج في جعل المسرح أداة حية للتفكير في قضايا العصر، مما يمنح العمل طاقة تجديدية تجعله أكثر من مجرد إعادة إنتاج.
مسرح يفكر ويحرر
"عطيل وبعد" ليست مجرد عرض مسرحي، بل هي صرخة فنية تتحدى الصمت وتستحضر الأسئلة الكبرى حول الهوية، العنصرية، والمقاومة.
في إطار مهرجان المسرح والمجتمع بسليانة، يبرز هذا العمل كمثال لقدرة المسرح على أن يكون مرآة للواقع ومنصة للحوار.
بفضل رؤية حمادي الوهايبي، أداء مهذب الرميلي المؤثر، ونص بوكثير دومة الشاعري، يترك العرض أثراً عميقاً في نفوس الجمهور، داعياً إياهم إلى التفكير في عالم يعاني من "لحظة جنون"، كما وصفها صالح فالح.