"الملك لير" يُعيد لـ"قرطاج المسرحية" نبضها: ليلة تونسية لم تنم حتى الثانية صباحاً

#أيام_قرطاج_26 #الملك_لير_المصري #يحيى_الفخراني #أوبرا_تونس #افتتاح_قرطاج #مسرح_لا_يُنسى

"الملك لير" المصري يُعيد لـ"قرطاج المسرحية" نبضها: ليلة تونسية لم تنم حتى الثانية صباحاً

الرؤية المصرية - مشاهدة: عوض سلام:-  

في لحظة لا تُمحى من ذاكرة المسرح العربي، تحولت قاعة الأوبرا بمدينة الثقافة (الشاذلي القليبي) بتونس العاصمة إلى مملكة من دموع وجنون وتصفيق يهز السماء.

الساعة تجاوزت الواحدة والنصف بعد منتصف ليل السبت 22صباح الاحد23 نوفمبر 2025، وأكثر من 1200 متفرج تونسي رفضوا مغادرة كراسيهم، كأنهم يخشون أن يستيقظوا من حلم اسمه «الملك لير».

 لم يكن هذا مجرد افتتاح للدورة 26 من أيام قرطاج المسرحية… كان بعثاً للمهرجان نفسه، وإعلاناً مدوّياً بأن المسرح العربي، حين يُقدَّم بهذا العمق والصدق، يهزّ العالم كله.

هذا المشهد حوّل نهاية شكسبير القاسية إلى رحمة مصرية خالصة: لير لم يمت وحيداً، بل التقى بابنته في عالم آخر، والحب انتصر بعد الموت.

  • لحظة النهاية التي صارت بداية أسطورة

عندما انطفأت آخر شعلة خضراء كئيبة على وجه "الملك لير" يحيى الفخراني، وهو يقف بجانب كورديليا الميتة على الخشبة العالية، ساد صمت يشبه الموت نفسه. 

ثم انفجر التصفيق كأنه عواصف الأطلسي التي كتبها شكسبير، خمس دقائق متواصلة، حتى ارتجفت جدران الأوبرا، ووقف الجمهور كتلة واحدة يصفق للخاتمة السماوية التي غيّرت كل شيء بعد أن يموت لير راقدا بجانب كورديليا، يخفت كل ضوء، ثم ترتفع شاشة شفافة عملاقة تغطي الخشبة كلها كأن السماء انفتحت.  

يظهر لير الشاب – صورة رقمية من أرشيف الفخراني في الستينيات والسبعينيات، شعر أسود كثيف، عيون مشعة – يرتدي رداء أبيض بسيطاً في فراغ أبيض لا نهائي.  

تتقدم كورديليا بثوب أبيض طويل، شعرها منسدل، وجهها يشع نوراً داخلياً، مع الابتسامة الأولى والأخيرة طيلة ثلاث ساعات من العرض.  

لير يفتح ذراعيه ببطء، كورديليا تركض نحوه كأنها تطير، يحتضنها احتضاناً أبدياً، الكاميرا تدور حولهما، تظهر ابتسامة لير الهادئة لأول مرة، دموع كورديليا تتلألأ كالنجوم، يضع يده على رأسها كأنه يباركها، ثم ينظر مباشرة إلى الجمهور وعيناه تقولان: «أخيراً… عدت إلى بيتي».  

لير يفتح ذراعيه ببطء، كورديليا تركض نحوه كأنها تطير، يحتضنها احتضاناً أبدياً


  •  القصة الأساسية: مبنية على مسرحية ويليام شكسبير الخالدة، تدور حول الملك لير الذي يقرر تقسيم مملكته على بناته الثلاث بناءً على إعلانهن حبهن له. لكن الخيانة والغدر يجعلان من الملك رمزا للعزلة والجنون، مما يحمل رسالة و درسا قاسيا عن السلطة والعائلة.
  • دور الفخراني: أحد عمالقة الفن المصري (في الـ80 من عمره) يجسد لير بطريقة عبقرية، مليئة بالعمق الإنساني ولمسة مصرية تجعل الشخصية قريبة مننا. قال في مقابلات إنه سعيد جدًا بالعودة لهذا الدور للمرة الثالثة، بعد نسخة 2001 و2019، وكل مرة بإخراج مختلف يجدد الطاقة.
  •  النسخة الحالية: من إخراج شادي سرور، إنتاج المسرح القومي المصري، وبطولة النجوم : طارق الدسوقي، حسن يوسف، تامر الكاشف، أمل عبدالله، وغيرهم. عرضت في القاهرة في يوليو وأكتوبر 2025، وأعادت الحجوزات بسبب الإقبال الكبير.

أرض تتنفس وتبتلع الملوك

منصة هيدروليكية عملاقة تتحرك صعوداً وهبوطاً كأنها قلب الأرض الدامي. 

في البداية ترتفع لتضع لير فوق الجميع بعرش شاهق، ثم تهبط ببطء قاتل مع كل خيانة، حتى يذوب العرش في السهل المكشوف، ويصبح الملك جزءاً من التراب الذي يدوسه الخونة، لا دوران، بل نبض عمودي يشبه مصير الإنسان: من السماء إلى القبر في خط مستقيم لا يرحم.

سيوف من نور تقطع الروح

أضواء LED تتحرك كالأشباح فوق رأس لير، ومضات بيضاء حادة كالخناجر في كل صرخة خيانة، ظلال خضراء مريضة تغرق الوجوه حين يبدأ الجنون، ضوء أحمر دموي واحد ينزف من السقف على جثة كورديليا كأن السماء نفسها تُذبح، ثم في لحظة العزلة الكبرى دائرة ضوء صغيرة لا تتجاوز نصف متر على وجه الفخراني فقط، كأن الكون كله تقلّص في عينيه المُدمعتين.

يحيى الفخراني: ملك كهل يمشي بثقل مملكة على كتفيه

لم يركض، لم يزحف، لأن لير لا يفعل. خطوة واحدة تأخذ ثلاث ثوانٍ، كأن كل قدم تحمل وزن عرش مفقود. يرفع يده لتقسيم المملكة فتظل معلقة في الهواء لحظات طويلة كأن الزمن نفسه يتجمد. 

وعندما يضم كورديليا الميتة إلى صدره يميل عليها حانيا بجلالة مكسورة، صوته خشونة السنين ممزوجة بنعومة أبوة مجروحة، يهمس «لا تُمزحي معي» بصوت يخرج من أعماق التاريخ ويخترق القلب كالسهم.

أما أداء الممثلين الآخرين، فكانوا جوقة تراجيدية متكاملة.

طارق الدسوقي في دور إدموند يجسد الشر ببريق عيون خبيث يجعلك تشعر بالإغراء والكره معًا، بينما تامر الكاشف كمهرج يرمي نكت سوداء بلمسة عربية تجعل الضحك يتحول إلى دموع في ثانية.

 البنات الثلاث قدمن أداءً يمزج بين الفصحى واللهجة المصرية الراقية، فتصبح خيانة ريجان وجونريل أقسى لأنها تبدو مألوفة، كأننا نسمعها في حوارات يومية.

عود يبكي مع كمان يصرخ

مزيج ساحر بين العود والكمان الغربي يجعلك تشعر أن شكسبير كتب النص بالعربية أصلاً، عواصف موسيقية تشتد مع كل قرار خاطئ، ثم تهدأ إلى همسة واحدة في النهاية كأنها دموع السماء.

عشرون دقيقة من لهفة عربية مشتركة

خلال الاستراحة، تحول البهو إلى سوق فني مفتوح، حضور إعلامي ودبلوماسي وفني عربي يتبادلون الآراء بحماس، يسألون بعضهم: «هل سنتحمل الشوط الثاني؟» ثم يعودون مسرعين إلى كراسيهم كأن الاستراحة كانت مجرد نفس عميق قبل الغرق الأخير في التراجيديا.

شادي سرور: من ترجم شكسبير إلى من أعاد خلقه مصرياً

حذف الثانويات، ضخّم دور المهرج حتى صار صوت الضمير العربي المقهور، جعل بنات لير يتكلمن بلغة مصرية راقية فيها رنة شعبية خفيفة، فأصبحت الخيانة أقسى لأنها تبدو مألوفة، كأنها تحدث في بيتنا كل يوم.

الموسيقى تختفي تماماً، يبقى صوت أنفاس الجمهور الذي انفجر بالبكاء.

هذا المشهد حوّل نهاية شكسبير القاسية إلى رحمة مصرية خالصة: لير لم يمت وحيداً، بل التقى بابنته في عالم آخر، والحب انتصر بعد الموت.

إخراجيًا، شادي سرور لم يكتفِ بترجمة شكسبير، بل «تمصره» و«تعربه» بجرأة: بنات لير يتكلمن بلغة مصرية راقية ممزوجة بالفصحى عند الغضب، والمهرج (تامر الكاشف) يرمي نكت سوداء.

النتيجة؟ أيام قرطاج عادت بقوة مدوية بهذا العمل المصري العملاق. الجمهور التونسي الذي ظل حتى الواحدة والنصف صباحًا لالتقاط الصور أرسل رسالة واضحة: المسرح العربي ما زال حيًا، شريطة أن يُقدم بهذا المستوى من الجنون والجمال والصدق.

هل كان هذا مجرد عرض افتتاحي ناجح؟

لا. كانت ليلة أعادت للمسرح العربي كرامته، وليحيى الفخراني مكانته كأحد عمالقة التمثيل في المنطقة، ولأيام قرطاج فرصة جديدة للحياة.

في النهاية، إذا أردنا أن نفهم لماذا بكى التونسيون والمصريون معًا في قاعة واحدة، الإجابة بسيطة: لأن «الملك لير» لم يعد ملكًا إنجليزيًا... صار ملكًا عربيًا يحمل جرحنا كلنا.

وأن تحتضن قاعة الاوبرا هذا العمل الضخم وتحقق نجاحا جديدا تقنيا فنيا قبل تكنولوجيا في تقديم اعمال عالمية، فهذا وإن لم يكن غريبا على الخبرات التونسية، إلا أن ذكره في كل عمل أمر يفرض نفسه، فلولاه ما وصلت رسائل الاعمال الفنية واضحة لامسة للوجدان والعمق الإنساني.

ففي الظلال التي لا يراها الجمهور عادةً، كان هناك جيش صامت من الأبطال الحقيقيين: تقنيو الإضاءة في قاعة الأوبرا بمدينة الثقافة الشاذلي القليبي، ومنهم محمد العربي حشاد، أولئك الذين تسلقوا السقالات، يربطون آلاف الأمتار من الكابلات، يبرمجون مئات المصابيح الذكية حتى تتنفس مع كل دمعة لير وتصرخ مع كل صاعقة، يحولون الضوء إلى سيف وإلى دمعة وإلى دماء تنزف من السماء، دون أن يطلب أحدٌ اسمهم على الملصق.

وخلف الكواليس، المنظمون التونسيون الذين يركضون بين المطار والفندق والمسرح، يحملون الصناديق الثقيلة بأيديهم، يبتسمون لكل ممثل مصري متعب ويرددون «أهلاً وسهلاً في تونس يا أهل الفن»، يحولون التوتر إلى ترحاب، والإرهاق إلى دفء أخوي يشبه دفء العائلة الكبيرة.

وخارج الأبواب، رجال الأمن الذين وقفوا طوال الليل تحت البرد، يحمون الحلم بصدورهم، يهمسون «تفضلوا، بلهجة مصرية تشعرك انك في بلدك بين اهلك، المسرحية هتبدأ دلوقتي»، يبتسمون، كأنهم حراس مملكة لير الحقيقية، لا يطلبون تصفيقاً ولا صورة، يكتفون بأن يروا الدموع في عيون الخارجين ويعرفون أنهم ساهموا في صنع ليلة لا تُنسى.

هؤلاء جميعاً، في الظل والنور، في الصمت والضجيج، هم من حملوا «الملك لير» على أكتافهم حتى وصل إلى قلوبنا، فلهم التحية التي لا تُكتب في البرامج، لكنها تُحفر في الذاكرة إلى الأبد.

  • تونس لم تنم تلك الليلة.  
  • قرطاج استيقظت من جديد.  
  • والمسرح العربي، بفخر مصري خالص، استعاد كرامته وقلوبنا جميعاً.