الكسكسي، هذا الموروث الغذائي الذي أدرجته اليونسكو ضمن قائمة التراث اللامادي في عام 2020، ليس مجرد وجبة تجمع العائلات، بل هو رمز ثقافي يحمل في طياته قصص الأجداد، أفراح اللمة، وروح التضامن المغاربي.
تحت إشراف سعاد الشهيبي، مديرة المهرجان، وبدعم من جمعية "نكهة بلادي" وأكاديمية الكسكسي بقيادة لطيفة خيري، يتجلى هذا الحدث كمنصة عالمية لتثمين الهوية المغاربية، حيث تمتزج الأصالة بالحداثة في احتفالية تجمع بين الفن، التراث، والمذاق.
بدأت فعاليات المهرجان في مدينة جرجيس، حيث شهد اليومان الأولان ورشة إبداعية أدارتها لطيفة خيري، رئيسة أكاديمية الكسكسي، قدمت فيها فنون تحضير "كسكسي بالسمك"، المعروف محلياً بـ"كسكسي بالحوت".
وفي اليوم الثاني، أحيت هناء العربي، السكرتيرة العامة للجمعية، عرضاً بعنوان "كركر الحوت يا عروسة"، استحضر الطقوس التقليدية المرتبطة بالكسكسي.
هذه الفعاليات، التي نظمتها فروع الجمعية في جرجيس، لم تكن مجرد عروض طهي، بل كانت لوحات حية تعكس عمق التراث المغاربي، من الأزياء التقليدية إلى الأهازيج والحوارات التي ترافق تحضير هذا الطبق العريق.
في الثالث عشر من أغسطس، تزامن المهرجان مع اليوم الوطني للمرأة التونسية، ليحتفي بدور المرأة في الحفاظ على هذا الموروث.
قدمت سعاد الشهيبي عرض "البوزيدية"، الذي يروي قصة الكسكسي من حبة القمح إلى "العولة"، مستعرضاً العادات المرتبطة بالأفراح العائلية واللمة الاجتماعية.
هذا العرض، الذي شاركت فيه نساء من مختلف الجهات التونسية مثل سوسة، زغوان، وتونس العاصمة، لم يكن مجرد استعراض فني، بل كان بمثابة جسر يربط الأجيال، حيث يستحضر ذكريات الأمهات والجدات، ويعيد إحياء قيم التضامن والمشاركة.
ما يميز هذا المهرجان هو طموحه العالمي. فقد تجاوز حدوده الإقليمية ليصل إلى أوروبا ومصر، حاملاً معه رسالة الثقافة المغاربية. شاركت في هذه الدورة دول مثل ليبيا، إلى جانب حضور مغاربي قوي من تونس، الجزائر، المغرب، وموريتانيا، مما يعكس الروح الوحدوية لهذا الطبق الذي يجمع شعوب المنطقة تحت مظلة تراثية مشتركة.
ومع خطط لزيارات مستقبلية إلى إيطاليا وفرنسا، يسعى المهرجان إلى نشر ثقافة الكسكسي عالمياً، مؤكداً أن هذا الطبق ليس مجرد طعام، بل هو "ثقافة نحتمي بها"، كما تصف سعاد الشهيبي.
في سياق فلسفي، يمكننا قراءة الكسكسي كرمز للوحدة والاستمرارية. إنه طبق يحمل في حباته ذاكرة شعوب، وفي تحضيره قصصاً تروي مقاومة الزمن والتغيرات الاجتماعية.
المهرجان، من خلال فعالياته المتنوعة، يعيد صياغة هذا الرمز ليصبح جسراً بين الماضي والحاضر، وبين المحلي والعالمي. ففي كل طبق كسكسي، هناك حوار بين الأجيال، وفي كل لمة، هناك تأكيد على قيمة الجماعة في مواجهة الفردانية التي تفرضها الحداثة.
اختتم المهرجان فعالياته في 17 أغسطس بـ"لمة الكسكسي" في معهد الدراسات العليا للسياحة والفندقة بسيدي الظريف، حيث قدم 12 طبقاً متنوعاً يعكس خصوصيات الجهات التونسية، من "الفتيل" في الجنوب إلى "البرزقان" في الكاف.
هذه اللمة لم تكن مجرد عرض تذوق، بل كانت احتفاءً بالتنوع والإبداع، حيث فازت ثلاثة فرق في مسابقة وطنية، حاملين جوائز رمزية تكرم جهودهم في الحفاظ على هذا الإرث.
المهرجان، ببرمجته الغنية ومشاركاته الدولية، يؤكد أن الكسكسي ليس مجرد طبق، بل هو نسيج ثقافي يحكي قصة شعوب المغرب العربي، ويفتح أبواب الحوار مع العالم.