مسرحية "آخر مرة" في مهرجان المسرح والمجتمع بسليانة 2025: تأملات نقدية في صراعات الهوية والعلاقات الإنسانية

الرؤية المصرية- تونس- سليانة- كتب: عوض سلام//

في إطار الدورة الرابعة لمهرجان "المسرح والمجتمع" بسليانة، التي انطلقت في 23 يونيو 2025، قدّمت المخرجة والكاتبة التونسية وفاء الطبوبي مسرحيتها "آخر مرة" على خشبة المركب الثقافي بسليانة يوم السبت 28 يونيو 2025.

مسرحية "آخر مرة" في مهرجان المسرح والمجتمع بسليانة 2025: تأملات نقدية في صراعات الهوية والعلاقات الإنسانية

اقرأ ايضأ:-

هذا العمل المسرحي، الذي جمع بين النص والإخراج للطبوبي، وبطولة مريم بن حميدة وأسامة كشكار، يمثل لحظة فنية متميزة تستحق التأمل النقدي لما تحمله من عمق فلسفي وجمالي، وما تعكسه من قضايا إنسانية واجتماعية معاصرة.

المسرح ليس مجرد فرجة 

مهرجان "المسرح والمجتمع"، بطبيعته الملتزمة، يوفر منصة للفنون التي تسعى إلى إعادة صياغة العلاقات المجتمعية وتعزيز قيم المواطنة والحوار. 

عرض "آخر مرة"، الذي جاء كجزء من هذا السياق، يتجاوز حدود العرض المسرحي التقليدي ليصبح نقاشًا بصريًا وحركيًا حول الصراعات الإنسانية، وتحديدًا تلك التي تدور حول العلاقة بين الرجل والمرأة، الأنا والآخر، في سياق ثقافي تونسي وعربي أوسع.

 المسرحية، من خلال تصميمها الفني وسينوغرافيتها المدروسة، تقدم تجربة فرجة تجمع بين الخطاب اللفظي والجسدي، مما يجعلها عملًا متكاملًا يعكس رؤية الطبوبي الفنية والفكرية.

صراع المعاني والتشظي

 "آخر مرة"، كنص مسرحي، يعتمد على بنية سردية مفتوحة تتيح تأويلات متعددة. العنوان نفسه، كما تشير الطبوبي، يحمل دلالات متباينة في المخيال التونسي: إنه إشارة إلى النهاية، سواء كانت نهاية تجربة أو خوف من العقاب أو اكتفاء بغنى التجربة.

هذا التعدد في المعاني ينعكس في بنية النص، الذي يقسم إلى ثلاث لوحات تتقاطع فيها الأدوار (الأم، الأخت، الزوجة، الموظفة/الابن، الأخ، الزوج، الرئيس) لتعكس تعقيد العلاقات الإنسانية.

النص لا يقدم حلاً نهائيًا، بل يترك المتفرج في مواجهة أسئلة وجودية: من يملك حقيقة العلاقة؟ وكيف يمكن للأنا أن تتعايش مع الآخر دون عنف أو إقصاء؟ 

السينوغرافيا: فضاء الصراع والمكاشفة السينوغرافيا في "آخر مرة"، كما تصفها الطبوبي، تعتمد على فضاء مغلق يحصر الشخصيتين (مريم بن حميدة وأسامة كشكار) في "علبة" درامية، مما يعزز شعور المتفرج بالاقتراب من لحظات المكاشفة والصراع.

استخدام عناصر بسيطة مثل الطاولة والكرسيين، التي تتحول إلى رمزيات متعددة (غرفة، مكتب، سرير بروكوست)، يعكس براعة في توظيف التقشف لخدمة الفكرة.

الإضاءة، التي تتناوب بين النور والعتمة، والموسيقى الحادة، تضيفان طبقة إضافية من التوتر، مما يجعل الفضاء المسرحي انعكاسًا للحالة النفسية للشخصيات.

الكوريغرافيا: الجسد كلغة

الخطاب الجسدي هو العمود الفقري للعرض، حيث يتجاوز الحوار اللفظي ليصبح الجسد وسيلة للتعبير عن الصراعات الداخلية والخارجية.

مريم بن حميدة، في دور "هي"، تستغل كامل الفضاء المسرحي بحركات لاهثة ومقاومة، مما يجعلها تجسيدًا للأنوثة المقاومة التي ترفض الخضوع.

أسامة كشكار، بدوره، يوظف جسده ليعبر عن التوتر بين الفحولة المزعومة والهشاشة الإنسانية، مما يخلق توازنًا بصريًا وحركيًا بين الشخصيتين.

هذا التباين الحركي، كما تشير الطبوبي، ليس مجرد رد فعل، بل هو تعبير عن تكامل القوتين: قوة المرأة في مقاومتها، وقوة الرجل في كلماته.

جميع الفئات العمرية، من الشباب إلى الكهول

مسرحية "آخر مرة"، في سياق مهرجان "المسرح والمجتمع"، تمثل نموذجًا للفن الملتزم الذي يسعى إلى إعادة صياغة العلاقات الاجتماعية.

العرض يتجاوز الترفيه ليصبح أداة لتحفيز النقاش حول قضايا العنف، سواء في المنزل، مكان العمل، أو الشارع.

كما أشار الطبوبي في حوارها مع "شبكة الرؤية الإخبارية المصرية"، فإن المسرحية تستهدف جميع الفئات العمرية، من الشباب إلى الكهول، لتسليط الضوء على العقد النفسية والاجتماعية التي تعيق التواصل البنّاء.

من خلال طرح قضايا مثل السيطرة الذكورية، الانفراد بالرأي، وغياب الإنصات للآخر، تقدم المسرحية نقدًا للتربية في المجتمعات العربية، داعية إلى إعادة التفكير في كيفية بناء علاقات أكثر عدالة وإنسانية.

إن إدراج مثل هذه الأعمال في مهرجانات مثل "المسرح والمجتمع" يعزز من دور الفن كمحفز للتغيير الاجتماعي. المسرحية، بطرحها للصراعات العميقة بين الرجل والمرأة، لا تقدم إجابات جاهزة، بل تترك المتفرج في مواجهة أسئلة حول طبيعة العنف وكيفية تجاوزه.

هذا النوع من الفن الملتزم يعكس التزام المهرجان بتعزيز قيم المواطنة وحقوق الإنسان، مما يجعل "آخر مرة" مساهمة فعّالة في الحوار الثقافي والاجتماعي. 

الأثر الفني والثقافي

"آخر مرة" ليست مجرد عرض مسرحي، بل هي تجربة فكرية وحسية تتحدى المتفرج لإعادة النظر في علاقاته بالآخر.

من خلال الجمع بين النص القوي، السينوغرافيا المدروسة، والأداء الجسدي المؤثر، تنجح الطبوبي في خلق عمل يتجاوز الحدود المحلية ليصبح ذا بعد عالمي. 

المسرحية، التي حازت على جوائز في مهرجانات عربية ودولية منذ إنتاجها في 2021، تثبت قدرتها على الاستمرارية، حيث لا تزال تقدم عروضًا في تونس، أوروبا، وكندا، مما يعكس قوتها الجمالية والفكرية. 

في حوارها مع "شبكة الرؤية الإخبارية المصرية"، تصف الطبوبي كل عمل مسرحي بأنه "جزء منها"، مشبّهة إياه بعلاقة الأم بطفلها. 

هذا التصور يعكس العمق العاطفي والروحي الذي تضعه في أعمالها، مما يجعل "آخر مرة" ليس مجرد حلقة في مسيرتها، بل علامة فارقة تؤكد مكانتها كإحدى الأصوات البارزة في المسرح التونسي المعاصر. 

مسرحية "آخر مرة"، كما قدّمت في مهرجان "المسرح والمجتمع" بسليانة 2025، هي دعوة للتأمل في الصراعات الإنسانية والاجتماعية التي تشكل هويتنا. 

من خلال تقاطع النص، الإخراج، والأداء، تنجح وفاء الطبوبي في تقديم عمل يجمع بين العمق الفلسفي والقوة الجمالية، داعية المتفرج إلى مواجهة سوء الفهم الكبير بين الرجل والمرأة، وبين الأنا والآخر. 

في سياق مهرجان يحتفي بالفن كأداة للتغيير الاجتماعي، تظل "آخر مرة" صوتًا قويًا يدعو إلى الحب، التعايش، ونبذ العنف، مؤكدة أن المسرح ليس مجرد فرجة، بل هو مرآة للواقع وأمل لمستقبل أفضل.