همسات أوذنة: سيمفونية التراث والحياة في قلب تونس

الرؤية المصرية/ تونس/ أوذنة/ كتب: عوض سلام//

تحت سماء تونس المتلألئة، حيث تتغنى الرياح بحكايات القرون، استفاقت أوذنة الرومانية في الأول من ماي 2025 لتحتضن تظاهرة "إيقاع التراث"، احتفالية نابضة بالحياة ضمن فعاليات شهر التراث التونسي وعيد الشغل.

همسات أوذنة: سيمفونية التراث والحياة في قلب تونس

نظمتها وكالة إحياء التراث والتنمية الثقافية، تحت إشراف وزارة الشؤون الثقافية وبالتعاون مع المندوبية الجهوية للشؤون الثقافية ببن عروس، ومنظمة ديامو تونس قرطاج، ونادي أريانة للدراجات، تحت شعار "عبر عبق الأثر وخضرة الطبيعة".

كانت أوذنة، بمعالمها الأثرية وسهولها الزمردية، فضاءً ساحرًا ليوم استثنائي جمع العائلات، عشاق التاريخ، وهواة الرياضة، في سيمفونية مزجت الإرث الحضاري بشغف العيش.

رؤية الوكالة: إعادة إحياء أوذنة
قادت هذه التظاهرة المديرة العامة لوكالة إحياء التراث والتنمية الثقافية، السيدة ربيعة بلفقيرة، التي أعلنت في تصريحها: "برنامجنا اليوم مخصص للترويج لموقع أوذنة كمسلك للدراجات. ونظرًا لاتساع الموقع وصعوبة زيارته دون وسيلة نقل، وبما أن أوذنة  منطقة طبيعية، فإن استخدام الدراجات يُعتبر الخيار الأمثل. نهدف إلى فتح مواقعنا الأثرية ضمن أنشطة ثقافية، لتشجيع المواطنين على زيارتها والتعرف على هذه الفضاءات، ولتحفيزهم على استكشاف تراثهم الثقافي والشعور بالفخر ببلادهم".

وأكدت أن الحدث خطوة أولى تليها تظاهرات ربع سنوية تشمل السينما، المسرح، وعروض الماريونيت، مع تحسينات تشمل تهيئة مسالك، محطات تأجير دراجات، ونقاط بيع للمنتجات التراثية بالتعاون مع المعهد الوطني للتراث.

أوذنة عبر التاريخ: مدينة الروعة الرومانية
أوذنة، التي أطلق عليها الرومان لقب "سبلينديديسيمو" أي "الرائعة"، هي أكثر من موقع أثري؛ إنها لوحة فنية تروي ملحمة تونس عبر العصور.

تقع ضمن إقليم قرطاج، على الطريق الروماني الذي يصل قرطاج بتبسة، وكانت إحدى أبرز ست مدن في إفريقيا الرومانية منذ القرن الأول قبل الميلاد.

رغم أدلة تشير إلى وجود احتلال ما قبل الروماني، إلا أن أوذنة ازدهرت كمركز حضري في العصر الروماني، مستفيدة من موقعها الاستراتيجي وخصوبة أراضيها.

استقر فيها المحاربون القدامى من الفيلق الثالث عشر لأغسطس، الذين حولوها إلى مستعمرة زراعية مزدهرة.

تضم المدينة معالم معمارية مبهرة، مثل معبد الكابيتول، الأكبر في إفريقيا الوثنية، ومسرح أمفيثياتري يُعد رابع أكبر مسارح المنطقة، إلى جانب حمامات فاخرة مزينة بفسيفساءات بديعة، وقنوات مائية تكشف عن براعة هندسية استثنائية.

تمتد أوذنة اليوم على أكثر من 200 هكتار، محاطة بسهول خضراء تجعلها واحة تراثية تجمع بين عبق التاريخ وسحر الطبيعة، ووجهة سياحية بيئية متكاملة.

إيقاع اليوم: جسر بين الأجيال
افتتح اليوم بإطلاق مسلك دراجات جديد، دشنته السيدة ربيعة بلفقيرة بحضور المندوب الجهوي للشؤون الثقافية ببن عروس، السيد مهذب القرفي، والبطل الأولمبي محمد القمودي وابنته نادية، بطلة الرالي، اللذين أضفيا رمزية وطنية ملهمة.

جابت الدراجات ممرات أوذنة، مزجت متعة الرياضة بالاكتشاف البيئي. مكتبة متنقلة، قدمتها المندوبية الجهوية، فتحت أبواب المعرفة، بينما ألهمت ورشات الأطفال خيالهم بألوان الإبداع.

 نسج الحكواتي حكايات الأبطال، كأن أحجار أوذنة تروي أساطيرها. النزهة البيئية، بنكهة المأكولات التونسية التقليدية، عانقت الطبيعة، فيما تحول معبد الكابيتول إلى مسرح لنغمات حية أنعشت الأجواء.

 إعادة ربط التونسيين بتراثهم
لم تكن تظاهرة "إيقاع التراث" مجرد حدث عابر، بل جسرًا حيويًا لإعادة التونسيين إلى جذورهم الحضارية.

كثيرًا ما تكون المواقع الأثرية وجهة للسياح الأجانب أكثر من المواطنين المحليين، لكن هذه المبادرة، بمزجها بين الرياضة، الثقافة، والبيئة، نجحت في جذب العائلات والشباب.

جولات الدراجات جعلت استكشاف الموقع مغامرة ممتعة، بينما عززت الورشات والمكتبة المتنقلة الوعي الثقافي لدى الصغار. الحكايات والموسيقى أعادت إحياء أوذنة كفضاء حي، لا مجرد أطلال. 

من خلال هذه التظاهرة، أرادت الوكالة غرس الفخر بالهوية التونسية، وتشجيع المواطنين على زيارة مواقعهم الأثرية، ليصبح التراث جزءًا من حياتهم اليومية، ولتعزز أوذنة مكانتها كوجهة ثقافية وسياحية محلية.

أصداء الغروب: دعوة التاريخ 
عند الغروب، صعد الحضور إلى أعلى نقطة في أوذنة، حيث قدم السيد داودا صو، مدير الدراسات والبرمجة والتعاون الدولي، قراءة ملهمة: "أوذنة، إحدى المدن التونسية التي تشبه نابولي في طابعها النيابوليستي، كانت بارزة منذ القرن الأول قبل الميلاد، وتُعد إحدى أكبر مدن إفريقيا الرومانية.

تضم معبد الكابيتول الأكبر في إفريقيا الوثنية، ومسرحًا رابع أكبر مسارح المنطقة. نتمنى لكم اكتشافًا غنيًا لتراث هذه المدينة العريقة". كانت كلماته بمثابة بوابة إلى الماضي، بينما ودعت الشمس اليوم بلحنها الذهبي.

ختام  مع أنغام الحياة
توج الحدث بحفل فني شبابي حملته فرقة بريرة أند فرانس، التي عزفت أنغامًا عانقت الغروب، فألهبت القلوب وأطربّت الأسماع من مختلف الأعمار والجنسيات.

في تلك اللحظة السحرية، امتزجت أنفاس الحاضر بأصداء القرون، لتؤكد أن أوذنة ليست مجرد أحجار، بل قصة عشق تتجدد مع كل زائر. 

في أوذنة، يرقص التراث على نبض الحياة، ويبقى السؤال مفتوحًا: من سيكتب الفصل القادم من هذه الحكاية الخالدة؟