تظاهرة عودة الفينيقيين: إحياء تراث بنزرت

الرؤية المصرية/تونس/ بنزرت:- في أحضان بنزرت العتيقة، حيث يرقص البحر على إيقاع التاريخ، وتتغنى الأحجار بأمجاد الفينيقيين، احتضنت المدينة يوم الأحد 11 ماي 2025 تظاهرة "عودة الفينيقيين" في دورتها الرابعة والثلاثين ضمن فعاليات شهر التراث.

في مرسى الفينيق: تراث يعانق الأنيق

تحت شعار "الفينيقيون والبحر.. عام الهيام"، وبإشراف المندوب الجهوي للشؤون الثقافية السيد فوزي بن قيراط، وبحضور والي الجهة السيد سالم بن يعقوب، تحول المرسى القديم إلى مسرحٍ حي يعيد إحياء إرث "هيبوأكرا"، المدينة الفينيقية التي أسست قبل ثلاثة آلاف عام.

محطات تاريخية: هيبوأكرا، درة الفينيق 

تُعد بنزرت، أو "هيبوأكرا" كما سماها الفينيقيون، واحدة من أقدم المدن التي أسسها هذا الشعب البحري في حوض المتوسط.

يعود تاريخها إلى القرن التاسع قبل الميلاد، حين اختارها الفينيقيون مرفأً استراتيجيًا يربط بين الشرق والغرب. 

كانت هيبوأكرا مركزًا تجاريًا وحضاريًا، حيث تبادل التجار البضائع من القمح والزيتون إلى الأصباغ النفيسة المستخلصة من صدف الموركس. 

هذا الصدف، الذي كان يُستخرج منه اللون الأرجواني الملكي، جعل من الفينيقيين روادًا في فنون الصباغة، وهو تراث لا يزال يُحتفى به حتى اليوم. 

في القرن الرابع قبل الميلاد، شهدت هيبوأكرا غزو القائد القرطاجني أكاتوكل عام 310 ق.م، الذي حولها إلى قاعدة عسكرية لشن حروبه. 

لم تكن المدينة مجرد مرفأ، بل كانت مركزًا لصناعة السفن والتجارة البحرية، حيث كانت السفن الفينيقية تجوب المتوسط حاملةً معها الثقافة والفنون. 

 تضم بنزرت اليوم حوالي 40 موقعًا أثريًا فينيقيًا، من بقايا الأسوار والمعابد إلى المقابر التي تحكي قصص شعبٍ عاشق للبحر. هذه المواقع، التي تتوزع بين القصبة والمرسى القديم، تُعد شاهدًا على عظمة الحضارة الفينيقية وتأثيرها العميق في تونس.

إحياء التراث في مرسى اليوم 

استهلت تظاهرة "عودة الفينيقيين" بجولة تفسيرية شيّقة في معالم بنزرت التراثية. 

زار الحضور متحف سيدي حني، الذي يحتضن آثارًا تعود إلى الحقبة الفينيقية والبونية، ثم الجامع الكبير وجامع القصبة، 

اللذين يعكسان تناغم التراث الإسلامي مع الإرث الفينيقي. كما شملت الجولة مقام الولي سيدي المسطاري، رمزًا للروحانية التي تميز المدينة. 

وفي سوق الحدادة، عرض الحرفيون مهاراتهم في صناعة الفخار والحدادة، ليُعيدوا إحياء الأسواق الفينيقية التي كانت تعج بالحياة. 

أما عرض الأزياء، فقد كان لوحة فنية تجسد الأناقة الفينيقية. قدم الحرفيون المحليون تصاميم مستوحاة من الملابس التقليدية، مصبوغة بألوان مستخلصة من صدف الموركس، في إشارة إلى التقنيات القديمة التي اشتهر بها الفينيقيون. 

وفي سياق علمي، ألقى مختصون الضوء على أهمية الموركس كمصدر للأصباغ، موضحين كيف كان الفينيقيون يحولون الصدف إلى ألوان زاهية تزين أقمشة الملوك. 

 وتألقت التظاهرة بمشاهد مسرحية مبهرة، أبرزها "البحار بعل حنو" و"نعمات".

الأولى سردت قصة بحار فينيقي يواجه أمواج المتوسط، مُبرزةً مهارة الفينيقيين في الملاحة. أما "نعمات"، فاستعرضت الحياة اليومية للفلاحين والحرفيين، من زراعة الأرض إلى صناعة الخبز بطرق تقليدية. 

هذه المشاهد، التي أداها فنانون محليون، أعادت الحياة إلى تفاصيل الحضارة الفينيقية، لتجعل الزائر يعيش تجربة غامرة في قلب التاريخ. 

تراث ينبض بالحياة 

تظاهرة "عودة الفينيقيين" ليست مجرد احتفالية عابرة، بل هي جسر يربط الماضي بالحاضر، ودعوة للحفاظ على الإرث الفينيقي الذي شكّل هوية بنزرت. 

من خلال إحياء الصناعات التقليدية، والفنون، والروايات التاريخية، تؤكد هذه التظاهرة أن التراث ليس مجرد أحجار وآثار، بل هو روح حية تتجدد مع كل جيل. في مرسى الفينيق، يعانق التراث الأنيق، ليبقى بنزرت منارة ثقافية تروي حكاية شعبٍ عشق البحر وكتب تاريخه على أمواجه.